فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

والفاء في قوله: {فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين (49)}
لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومعرضين حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الاستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعن متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلة أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الإيمان به جوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أطلق على ما ذكر مبالغة.
وقوله تعالى: {كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} حال من المستكن في {معرضين} بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومستنفرة من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كان الحمر لشدة العدو تطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا.
{فرّتْ مِن قسْورةٍ} أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب الأسد وبلسان الحبشة قسورة وفي رواية أخرى عنه أنها الرجال الرماة القنص وروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية أخرى عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله سبحانه: {كمثلِ الحمار يحْمِلُ أسْفارا} [الجمعة: 5] أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل وقرأ الأعمش حمر بإسكان الميم وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم {مستنفرة} بفتح الفاء أي استنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت كأنهم حمر ماذا فقال مستنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنما هو فرت من قسورة قال أفرت قلت نعم قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى: {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يأْتِى صُحُفا مُّنشّرة} عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى: {لن نُّؤْمِن لك حتى تُنزّل عليْنا كِتابا نّقْرءهُ} [الإسراء: 93] وقال: {ولو نزّلْنا عليْك كتابا في قِرْطاسٍ فلمسُوهُ بِأيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار وقبل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلا أن يراد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وأن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعول عليه ما تقدم وهو مروى عن الحسن وقتادة وابن زيد وقرأ سعيد بن جبير {صحفا} بإسكان الحاء منشرة بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزله ونزله وفي (البحر المحفوظ) في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى ونشره ويقال أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحي.
{كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة (53)}
{كلاّ} ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات {بل لاّ يخافُون الآخرة} فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة {تخافون} بتاء الخطاب التفاتا.
{كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ (54)}
{كلاّ} ردع لهم عن إعراضهم {أنّهُ} أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى: {فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} [المدثر: 49] وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه بمعنى القرآن أو الذكر {تذْكِرةٌ} وأي تذكرة.
{فمن شاء} أن يذكره {ذكرهُ} وحاز بسببه سعادة الدارين والوقف على كلا على ما سمعت في الموضعين وعلى منشرة والآخرة إن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلا.
{وما يذْكُرُون} أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى: {فمن شاء ذكرهُ} [المدثر: 55] إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه: {إِلاّ أن يشاء الله} استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلا بأن يشاء الله تعالى أو حال إن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز وجل بالذات أو بالواسطة ففيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر والجاء وقرأ نافع وسلام ويعقوب تذكرون بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة يذكرون بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر تذكرون بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال {هو أهْلُ التقوى} حقيق بأن يتقي عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول {وأهْلُ المغفرة} حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمن به وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجه وخلق آخرون عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة فقال قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له» وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى إني لأجدني استحي من عبدي يرفع يديه إلي ثم يردهما من غير مغفرة قالت الملائكة الهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى: لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له» وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر.
وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} قال: اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلا فلا يحسن الدعاء وأن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين}.
استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين إعراضهم عن التذكرة، وهو القرآن الكريم، الذي يذكرهم باللّه، ويكشف لهم الطريق إليه.
وقوله تعالى: {معرضين} حال من الضمير في {لهم}..
وهذا الاستفهام في مقام غير المقام الذي كان فيه هؤلاء الكافرون في جهنم..
إنهم هنا في الدنيا- بعد أن عرضوا على جهنم، وجاءهم الخبر اليقين هناك بأن لا شفيع لهم من عذابها.. فإذا أعيدوا إلى الدنيا بعد هذه الرحلة الجهنمية لقيهم هذا السؤال: {فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين}؟ أي إذا كان هذا هو مصير الكافرين.. فما لهم- وهم الآن في فسحة من أمرهم- يعرضون عن آيات اللّه التي تفتح له باب النجاة من هذا الكرب العظيم؟.
{كأنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتنْفِرةٌ فرّتْ مِنْ قسْورةٍ}.
حال من أحوالهم في إعراضهم عن القرآن، ونفورهم منه.. إنهم ما إن يسمعون آيات اللّه تتلى، حتى يفزعوا وينفروا كما تنفر الحمر، وقد اشتمل عليها الذعر، حين رأت قسورة أي أسدا، مقبلا عليها.. وسمى الأسد قسورة، أخذا من القسر، والقسوة..
وفى تشبيههم بالحمر المستنفرة من بين سائر الحيوانات التي إذا رأت الأسد فرت من وجهه- لأن الحمار يمثل الغباء والبلادة من بين سائر الحيوان، وبه يضرب المثل في هذا، كما يقول سبحانه: {كمثلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا} (5: الجمعة).
وفى إسناد الاستنفار إلى تلك الحمر في قوله تعالى: {مستنفرة} بدلا من أن يسند الاستنفار إلى من استنفرها، فيقال: {مستنفرة}- في هذا إشارة إلى أن ذلك طبيعة غالبة عليها، وأن من شأنها النفور دائما، دون أن يكون هناك سبب لنفارها.. إنها ذات طبيعة وحشية، لا تأنس في ظلّ من سكينة أبدا..
وفى وصف الحمر بأنها {مستنفرة} بدلا من (نافرة)- إشارة أخرى إلى أنها تستدعى هذه الطبيعة الكامنة منها، وتهيجها وتحركها من غير سبب يدعو إليها، كما أن بعض هذه الحمر يستدعى بعضا إلى هذا النفور، فتمضى في طريقها عليه، من غير دافع إلا هذا التقليد الأعمى.
وهذه حال تمثل أهل الضلال أصدق تمثيل، إنهم وهذه الحمر المستنفرة على سواء.. ففى طبيعتهم نفور ملازم كل دعوة إلى خير، وهم دائما يتبعون أول ناعق يدعوهم إلى النفور من وجه الحق..
وشبه القرآن بالقسورة، لما للقسورة من هيبة، تملأ القلوب، وتملك المشاعر.. ثم هو إلى مهابته وسطوته، بعيد عن الدنايا، عف عن القذر لا يأكل الميتة، ولو مات جوعا..!
ولم يسمّ القرآن الأسد أسدا، وإنما سماه {قسورة}، ليكسوه بهذا الاسم ذى الجرس الموسيقى القوى هيبة إلى هيبة، وعظمة، إلى عظمة، الأمر الذي لا يحققه لفظ أسد، الضامر، المبتذل على الأفواه لكثرة تردده.
قوله تعالى: {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُؤْتى صُحُفا مُنشّرة}..
هو إضراب عن دعوتهم إلى ترك الإعراض عن القرآن، حتى يكون لهم منه ذكر وموعظة..
وكلّا فإنهم لا يستجيبون لهذه الدعوة، لأن كلّا منهم يريد أن يكون له كتاب من عند اللّه، كهذا الكتاب الذي يدعوهم إليه رسول اللّه..
وهذا ما يشير إليه سبحانه في قوله على لسانهم: {وقالوا لنْ نُؤْمِن حتّى نُؤْتى مِثْل ما أوتِي رُسُلُ اللّهِ} (134: الأنعام).. وهذا جهل وغباء لا يستقيم إلا على منطق الحمر! قوله تعالى: {كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة}.
أي أنهم لن يؤتوا هذه الصحف أبدا.. وأنهم لا يؤمنون بالآخرة أبدا، ولا يخافون عذابها، ولا يعملون على توقّى هذا العذاب.. وهؤلاء هم المشركون الذين ماتوا على الشرك، ولم يقبلوا دعوة الإسلام، وهذا هو حكم اللّه عليهم، وقضاؤه فيهم.
قوله تعالى: {كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ}..
الضمير في {إنه} القرآن الكريم، الذي أشارت إليه الآية السابقة.
{فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين}.
وإنه ليس عن شأن هذه التذكرة أن تحمل هؤلاء المشركين حملا على الخوف من عذاب الآخرة.. وليس القرآن إلا تذكرة، للغافلين، وتنبيها للشاردين..
قوله تعالى: {فمنْ شاء ذكرهُ} أي فمن شاء ذكر ربه بهذا القرآن.. إنه أمر مردّد إلى الإنسان نفسه، وإلى إقباله على ذكر اللّه، أو إعراضه عنه.. ولو كان الأمر على سبيل القهر والإلزام لما كان ثمّة امتحان وابتلاء تنكشف به أحوال الناس، وتختلف فيه منازلهم، ولكانوا جميعا على منزلة سواء.
قوله تعالى: {وما يذْكُرُون إِلّا أنْ يشاء اللّهُ.. هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ الْمغْفِرةِ}.
هو دفع لما قد يقع من مفهوم خاطئ لقوله تعالى: {فمنْ شاء ذكرهُ} حيث أطلق مشيئة الإنسان.. ومشيئة الإنسان ليست مطلقة، بل هي مقيدة بمشيئة اللّه..
ونعم.. الإنسان له مشيئة يجدها في كيانه، وفيما يأخذ أو يدع من أمور، وفيما يقبل أو يرفض من أعمال.. ومع هذا، فإن تلك المشيئة مرتهنة بمشيئة اللّه،
مقيدة بها، جارية مع القدر الذي أرادته مشيئة اللّه.. فهى مشيئة مطلقة في داخل الإنسان، مقيدة من خارج بالمشيئة الإلهية العامة الشاملة..
وقوله تعالى: {هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ الْمغْفِرةِ}- أي هو سبحانه أهل لأن تتّقى محارمه، ويخشى عقابه، وهو سبحانه أهل المغفرة، يرجى عنده غفران الذنوب، لمن أناب إليه، وطلب الغفران منه.. وفى هذا إشارة إلى أن مشيئة اللّه العامة المطلقة، عادلة، رحيمة، منزهة عن الجور والتسلط.. إنها مشيئة الخالق في خلقه. فالخلق في ضمان هذه المشيئة، في رحمة اللّه، أيّا كانت مشيئة اللّه فيهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {ولكِنّ اللّه ذُو فضْلٍ على الْعالمِين} (251: البقرة). ويقول سبحانه: {إِنّ اللّه بِالنّاسِ لرؤُفٌ رحِيمٌ} (143: البقرة) وفى الحديث: «للّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها». اهـ.